المقال

:: النظرة المادية للحياة وأثرها على حياة المسلم المعاصر ::

5658 | 18-08-2020

النظرة المادية للحياة وأثرها على حياة المسلم المعاصر

إن الاقتصاد هو الإله الأكبر للجاهلية الأوروبية المعاصرة ودون منازع، لقد كانت أوروبا في عصر الكنيسة الأول تحتقر الحياة الدنيا وتزدري ما أحل الله من الطيبات وتقدس الفقر والتقشف، وتبارك البؤس والشقاء في ظل الدين النصراني الضال تبعا لأوامر الكنيسة المعظمة، وحسب ما يمليه عليهم القديسون، وكل هذا من أجل الخلاص من الخطيئة التي وقع فيها آدم عليه السلام حيث تقول النصرانية: إن أكل آدم عليه السلام من الشجرة خطيئة أوقعت أبناءه في عقوبتها فنزل عيسى الابن ليخلص الإنسانية من الخطيئة- تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً- وجعلوا من الوسائل الفقر والتقشف {ورهبانية ابتدعوها ماكتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله}، واعلموا أن الإلحاد ثمرة للدين المحرف الفاسد ولذا انقلب الأمر رأسا على عقب، وتحولت أوروبا إلى وحش ضار وهجمت بكل قواها على المتاع الحسي وتطلعت بكل حواسها إلى الشهوات الزائلة، تريد أن تلتهم كل متعة وتنتهب كل لذة حتى غرقت في الدنيا ونسيت الآخرة، بل نبذتها نبذاً كاملاً ليس هذا فحسب... بل إن أوروبا عبدت حقيقة لا مجازاً الإنتاج المادي، فالصورة التي لم تتغير هي صورة العبادة المذلة.

وقد تأثر المجتمع الغربي بنظرية داروين حيث اعتبر أن جده الأكبر كان حيواناً يعيش في مستنقع ماء قبل ملايين السنين ثم مرّ بسلاسل من التطور ثم إلى قرد ثم السلسلة المفقودة ثم أصبح إنساناً، هذه النظرية الجاهلية التي صدقها الغرب ولا زالوا يصدقونها ويؤمنون بها وتنطلق سلوكياتهم وتصوراتهم للحياة خلالها، جعل الإنسان من مملكة الحيوانات الفقارية أو الحيوانات الثديية، وهذا خلل عظيم أدى إلى أن الإنسان مادام حيواناً فإن له أن يمتع رغباته الجنسية وغرائز الأكل والشرب والتعري، وقوانين الحيوانات كقانون الغاب وغيره ويعيش حياته كحيوان متطور.

وهكذا رأى الإنسان ما وصل إليه الفكر الغربي من الاضمحلال وكذا الواقع الغربي من الفساد بسبب الجري وراء المادة واستغلال الدنيا لإشباع الغرائز وهذا أثر تبعا على الدين فلا قيمة للدين بل أبغض الغرب الكافر الدين وحاربه وانتقص أمر الجبار تبارك وتعالى، وهذا كله أظهر سلوكيات في تصرفات الكفار وأخلاقياتهم، وأصبحت حياتهم ومعبوداتهم لأجسادهم ولدنياهم وأصبح الأساس في العمل هو الإنتاج المادي وما يحققه من الأرباح، أما الإنسان كروح فلا، كصاحب ضمير فكلا، كرجل مبادئ فلا داعي، كمحترم لمبادئ وحقوق النفس البشرية، فكيف وهو يرى أنه حيوان؟ والواقع المشاهد خير شاهد، إنها نظرة مادية بحتة للحياة الدنيا {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}.

ثم انتقلت هذه الصور إلى بلاد المسلمين، وأقولها: قد لا نكون تأثرنا بالعقائد التي هم عليها ولكننا تأثرنا بالسلوكيات التي وقعوا فيها، وأصبحنا نعيش نظرة الغرب إلى الدنيا ونعظمها ولا نتحدث إلا فيها, وننقل كثيراً من تعاستهم وضلالهم إلى أرض المسلمين.

وإليك عزيزي المسلم صوراً من هذه النظرية المادية:

1. تسمع مسلماً يقول: الغرب أصحاب أخلاق، وأهل صدق وأمانة بدون أن ينظر إلى غاياتهم من ذلك وأطماعهم، وما يفعلونه في العراق من إثارة الطائفية ونهب بتروله وقتل المدنيين دليل على الظلم والطغيان، وما نراه من مؤامرات ودسائس وراءها الحكومات الغربية وغيرها دليل آخر.

2. حصول الخواء الروحي والخراب الداخلي الذي يعاني منه الإنسان الغربي، انتقل إلى الكثير من المسلمين فترى الخواء والضبابية الروحية على وجهه حتى انتشر الانتحار وشاع، ورأينا كثرة المستشفيات النفسية لعلاج هذا الخواء بل أصبحنا نهتم بالتكهنات والرؤى المستقبلية كالغرب.

3. الخطط التنموية في معظم البلاد الإسلامية تهتم بما يخدم الجسد فقط كالأكل والشرب والمرافق متناسية دور الروح وأثره، ولك أن تنظر إلى الخطط الخمسية في دول العالم الإسلامي كأنها خطة فرنسا أو ألمانيا بينما ديننا الأساس فيه الروح، فلا تسمع برامج تخدم التثقيف الشرعي ولا تعليم الناس دينهم، وإنما تنصب جميعا على الجسد.

4. أصبحت المواعظ التي يلقيها الخطباء وعظاً جميلاً ونصحاً رائعاً بينما الاستجابة لتلك الأحاديث بطيئة وضعيفة بسبب التراكمات المادية على القلب فما أن يخرج من المسجد حتى ينسى هذا الموضوع تماماً وينسخ من ذهنه وتخرج آثاره من قلبه كل ذلك بسبب حب الدنيا وكراهة الموت "ولكنكم غثاء كغثاء السيل ينزع الله مهابة الناس منكم ويجعلها في قلوبكم".

5.الاتجاه إلى كل شكلي ومادي وحسي على حساب المعنى والمضمون والفحوى والمشاعر والأحاسيس ولك أن تذهب إلى محلات الملابس والعطورات والإكسسوارات لترى الشكلية ولا مضمون.

6. الأخلاق والمبادئ كالصدق والأمانة كانت تستمد من الكتاب والسنة، أما الآن فإنها تستمد مرجعيتها من المصالح حتى إنه عند البعض يتمنى أن يحصل على ريال واحد بدلاً من الحسنات لينافس به في هذا الواقع، فكل طاعة يشوبها تعلق بالدنيا ومتاعها.

7. انتشار زيادة الوزن عند الكثير حتى غدا الكثير من الرجال والنساء يتدارسون بينهم ماذا يأكلون؟ وما ذا يشربون؟ وأريد تخفيف وزني، وما الرياضة التي أمارسها؟ وانتشرت أدوات التخسيس وأنديته، إن الترف داء عضال يفسد الأمم ويدمر المجتمعات، ومع كبر الأجسام ضعفت القلوب وقلّ التأثر والارتباط بالله والدار الآخرة.

8. أصبح النجاح الحقيقي هو النجاح المادي الدنيوي فقط، والتفوق الدراسي والمهني وإحراز الأموال علامة الرجولة، ومن يملك الأموال والوظائف الدنيوية من أهل الصلاح، وهذا جهل بحقيقة الدين، فالمقياس عند الزواج المنصب والمال ويتذرعون بأنهم زوجوا صاحب دين، وأظنه دين الدينار والدرهم والخميصة والخميلة.

9. العلاقات الاجتماعية التي يقيمها الإسلام على الود والتواصل والرحمة والمحبة أصبحت تقوم على تبادل المنافع والمصالح وهذه نتيجة التجارة ونظمها الغلابة، فلو أن له أختاً وزوجها فقير يقاطعونها ولا يعرفونها إلا يوم العيد، وعذرهم لها أشغلتنا الدنيا.

10. الإسراف الكبير في الأشياء (أكياس الزبالات السوداء) تخرج من البيوت يوميا ملأى، وكثرة الولائم إلى درجة التبذير الشيطاني لأجل الوجوه وخاصة في الأعراس.

11. خرجت لنا صور جديدة للكرم المزيف وهي أجلى صور النظرة المادية للحياة حيث خرجت عند الناس حقوق وواجبات وتقاليد وعادات ما كنا نعرفها قبل ذلك وأغلبها مبني على المصالح المادية لو نظرت إلى ما يحصل على سفرة الطعام لاستغربت الدقة والتفنن في رص الملاعق والسكاكين والفواكه والحلويات والمناديل والسلطات وغيرها بترتيب غريب يدل على انصراف الهمم إلى مثل هذه القضايا والانشغال بها.

12. ومن صور المادية حب التغيير (أثاث البيت كل عامين أو ثلاثة، الملابس وما أكثرها عند النساءـ فالمرأة عندها ثلاثون أو أربعون ثوباـ ولا بركة فيها حتى تتحير إذا جاءت مناسبة ماذا تلبس؟ لأن وزنها يتزايد! ملابس سهرة وأخرى جلسة وملابس للبيت وأخرى للمطبخ، ولون طوق الشعر والشنطة والحذاء يشبه لون الثوب أو نقطة منه {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}.

13. إن العرف ينسجم مع الواقع في النهاية فالرجل المرتشي الكاذب والمخادع يسمى داهية وشاطرا وذكيا ونحوها، والمتمسك بالأخلاق الصالحة في ديننا هو الطيب والمسكين والضعيف وعلى (نياته).

14. خروج المرأة مع الرجل للعمل خارج البيت، تاركة أسرتها وحصنها الحصين لتنخرط في العمل لتوفير لقمة العيش أو لأجل المباهاة والظهور بمظهر معين أو للترف ونحوه ومنافسته في كل مجال والاختلاط به، وهذه من صور هذه النظرة.

15. جنون الاستهلاك ومتعة التسوق، فمتى سمعنا أن المرأة تخرج الحادية عشرة أو الثانية عشرة ليلاً للتسوق وقد تخرج لوحدها مع السائق، إن الانفتاح الغريب على التسوق قد كان بسبب انهيار الناحية الروحية عند الغربي وقلدهم المسلمون، ومثله الفهم الغريب في الشراء حتى لو أدى إلى فقدان المال والحاجيات الأساسية، وهنا ازدادت الإعلانات وفتحت الأسواق الجديدة وهيئت تلك الأسواق لتكون مرتعاً لتحقيق متعة التسوق، وتتبع الموضات والإكسسوارات الحديثة المباحة والمحرمة في عالم الموضة، كما أن الإقبال الغريب عليها يدل على الإغراق وهو دليل على الترف غير المبالي بالحال.

16. 80 % فيما يظهر من الشباب مدين ومن صورها الوقوع في الديون لبعض الشركات والمؤسسات لأجل سيارة أو إشباع بعض الشهوات والمتع وهذا خطر فادح على الأمة.

17. ومن صورها ظلم العمال حتى رأينا العمال في الأسواق والشوارع، وقد رمى بهم كفلاؤهم ثم تركوهم بدون توظيف لهم أو وفاء لهم بما عاقدوهم عليه فخالفوا أنظمة البلد وأكلوا أموال العمال بالباطل ولذا يرجع العامل إلى بلده وقد حمل كفيله الأوزار حتى يدعو هو وعائلته الفقراء عليه وعلى أهل بلده ويكرهون البلد وأهله، والأعظم منه ظلم الخادمات الضعيفات في البيوت.

18. ومن صورها ضعف الغيرة والقوامة عند الرجال، فتنظر إلى وجه الرجل فتحترمه وإذا خلفه بنتان أو ثلاث أو زوجته وأخواته وقد لبسن العباءات المخصرة الفرنسية التي تحرك الغرائز والنقابات المثيرة للفتنة ولبسن بنطلون (الجنز) أو الثياب القصيرة، وهو يستعرض بهن في الأسواق وهن يستعرضن بأجسامهن أمامه فيفتنّ ذوي الألباب قبل الشباب، وهو ينزل بهن الأسواق ويحضر بهن المهرجانات والحفلات والأماكن العامة، أو ترى النساء وفيهن نوع تبرج قد نزلن لوحدهن الأسواق.

نتائج المظاهر الجوفاء وأمراضها:

1) أمراض جسدية كالسكري والسرطان والجلطة وغيرها فالترف له أمراضه كما أن الفقر والجوع له ضريبته وأمراضه {وما كان ربك نسياً} ولحقها انتشار السمنة وآثارها على الجسد.

2) أمراض نفسية بسبب الخواء الروحي وضعف الإيمان وحب الظهور والمظاهر فانتشر القلق والاكتئاب كما انتشر الحسد والخوف الشديد على المستقبل وتبعه الكبر والغطرسة وبعضهم لو أصيب بمرض عادي غير خطير لجنّ جنونه ومثل لك تعلقه بالدنيا التي عمرها وخوفه من الآخرة التي دمرها.

3) أمراض قلبية كضعف التوكل وقلة الإيمان والخوف من غير الله ورجاء ذلك الغير والنظر إلى من هو أعلى منه فالصحراوية الروحية سببها التكالب على الدنيا وتعظيمها.

4) أمراض روحية كالعتامة التي توجد في القلب وعدم الخشوع في الصلاة واللا مبالاة بالدين وتبلد الإحساس وضعف الإيمان بالقدر وعدم تعظيم شعائر الله، فلا بكاء وليس في قلبه خشية ولا إنابة ولا رقة قلب ويحاول ويجتهد ولا يجدها.

5) أمراض سلوكية كعدم الكرم والجود وعدم التضحية لدين الله عز وجل ومنها العنصرية الوطنية أو القومية أو القبلية، ومنها التجهم في وجوه الناس العامة وتعسير معاملاتهم متناسيا أن عمود الإسلام هو الأخلاق المباركة الفاضلة وأن (المؤمنين الكمل هم أصحاب الأخلاق الطيبة).

6) أمراض في قضايا العبادة: فتحت باب الرياء والسمعة كعدم الإنفاق في سبيل الله فما تبرع يوما لإخوانه المسلمين في سبيل الله في أي مكان وعدم الصدقة فما تصدق يوما بريال وكذلك الكسل في العبادة والتخمة في الطاعات وقسوة القلب حتى نراه يذهب إلى المسجد بعد انتهاء الصلاة، أو لا يكاد يدرك تكبيرة الإحرام في حياته إلا قليلا، بل ولا يدخل إلى الجمعة إلا بعد أن يذهب من الخطبة بعضها، فاللهم إنا نعوذ بك من العجز والكسل.

7) أمراض اقتصادية: كالربا الذي هو سرطان المال فكثرت بنوك الربا ولا يبالي أحدنا بوضع ماله في هذه البنوك الفاجرة ويأكل ويؤكل وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولا يهتم أن يعمل فيها ويأكل هو وأولاده من راتبه الذي استلمه من هذا البنك الربوي، وكانتشار البطالة والتضخم والتطفيف في المكيال والميزان وتخسير المسلمين لزيادة رصيده وكثرة الديون التي لا هدف منها إلا تكثير رصيده بدون نظر إلى خطر الديون التي لا حاجة إليها على الفرد والمجتمع.

8) أمراض اجتماعية: وهو سوء الأحوال المعيشية فإن شروط العيش الكريم تزداد صعوبة يوما بعد يوم، وكثير من الشباب الذين قذفت بهم المدارس والجامعات إلى معترك الحياة يشعرون بالإحباط وانسداد الأفق ومن الأمراض الاجتماعية تعيّش بعض الموظفين من وراء الرشوة والاستيلاء على المال العام والاحتيال على النظم بحجة الضرورة أو أن غيري فعلها أو لمساواة موظفين آخرين رواتبهم أكبر من راتبي ومنها تربية الولد حيث يربى على أن يكون دنيويا بحتا وليس أخرويا.

ومن الأمراض الاجتماعية أنه عند انتشار البطالة فقد ينفتح باب الجريمة فتخيل في بعض البلاد الإسلامية الشاب قد تخرج قبل أكثر من عشرة أعوام ولم يجد عملا إلى الآن فماذا يصنع ليعيش كغيره؟ وما هذه الثورات التي تجتاح العالم لتواجه هؤلاء الطواغيت إلا دليل صريح على ما تعانيه هذه الشعوب:

أما العلاج ففي أمور، ومنها:

1. العودة إلى حقيقة الإيمان بالله واليوم الآخر واستشعار أركان الإيمان, ومتعلقاتها وتعظيم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب.

2. تدبر كتاب الله عز وجل تدبر فهم وتأثر وعمل قال تعالى: {وهذا كتاب أنزلناه مبارك}.

3. الحذر من الجري وراء شهوات الدنيا فيكون من الذين قال الله فيهم: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، لاهية قلوبهم}، ومعرفة حقيقة الدنيا وأنها لا تستحق كل هذه المعاناة ولا تستأهل الجري وراءها ونسيان الآخرة.

4. الاهتمام بأمر العبادة من الخشوع في الصلاة والإكثار من ذكر الله والنوافل فهذا يزيد الإيمان ويورث الشفافية في القلب.

5. تذكر الموت دائما وأنك ستموت، واستشعار ذلك فإنه يزهد في الدنيا ويربط العبد بالله والدار الآخرة.

6. دراسة المعاني العظيمة في الشريعة كالزهد والورع والقناعة ونقد الذات والبذاذة ونحوها.

التعليقات : 2 تعليق

22-09-2020

(غير مسجل)

إبراهيم عبدالكريم جمال الدين

حب الشهوات والدنيا وزينتها هى السبب الأساسى فى كل هذا
21-09-2020

(غير مسجل)

خالد

ما شاء الله
نصح وتذكير لعلاج كثير من القضايا المعاصرة، ولن ينتفع بعلاجها ويحذرها مما حذرت منه إلا الموفق الصادق.
جعلني الله وإياكم منهم.
[ 1 ]

إضافة تعليق


 

/500

روابط ذات صلة

المقال السابق
المقالات المتشابهة المقال التالي