المقال

:: تأملات في قوله تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة} ::

8751 | 18-08-2020

تأملات في قوله تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة}

تأمل في قوله تعالى: {وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النحل: 112].

1/ هذا مجرد مثال كما لا نفهم أنها مكة أو غيرها فهذا مجرد مثال فلنتنبه، ولو كانت لقرية معينة فليست هي مكة؛ لأن هذه القرية وصفت بأنها كافرة إذ كفرت بأنعم الله، ومكة أحب أرض الله إلى الله لم يصفها سبحانه وتعالى بصفة مشينة، ألا ترى كيف نزه مكة عن وصفها بالظلم في قوله تعالى {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها ...} فلم يأت النص "ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمة".

2/ {قرية} بدل من (مثلا)، وهي مكان اجتماع الناس، (دولة أو مدينة أو ضاحية) كلها بمعنى قرية.

3/ هذه الآية تمر بثلاث مراحل: المرحلة الأولى من الله – الثانية من إنسان القرية – الثالثة من الله.

المرحلة الأولى: ثلاث نعم من الله تعالى على هذه القرية 1/ آمنة 2/ مطمئنة 3/ يأتيها رزقها رغدا من كل مكان.

4/ [الأمن خارجي - والطمأنينة داخلية] فجمع بين نعمتين في الأمن: النعمة الخارجية والنعمة الداخلية.

5/ {آمنة مطمئنة} لماذا قدم ذكر الأمن على الطمأنينة؟؛ لأنه لا طمأنينة دون الأمن، فالأمن أولا ثم الطمأنينة .

6/ لو ذكرت الطمأنينة وحدها لتضمنت معنى الأمن، فلماذا ذكر الأمن أيضا؟

ذكر الأمن أيضا؛ لأن المقام مقام تفصيل لنعم الله على هذه القرية وليس مقام اختصار.

7/ {يأتيها رزقها رغدا} للفعل المضارع {يأتيها} الرزق يأتيها دون أن تمشي إليه، وحال هذه القرية مثل حال مكة، قال تعالى: { ... أولم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء}.

8/ جاء التعبير في وصف حالة الأمن والطمأنينة بالاسم {آمنة مطمئنة} ولم يأت النص بالفعل "أمنت واطمأنت"؛ لأن الاسم يدل على ثبوت الأمن والطمأنينة فهو ليس أمن يوم أو يومين بل على الدوام.

9/ جاء التعبير عن الرزق بالفعل المضارع {يأتيها} لدلالة الفعل المضارع على التجدد؛ لأن إتيان الحصول على الرزق متجدد في كل يوم وكل ساعة.

10/ {رزقها} ولم يأت النص "يأتيها رزق الله"؟ لأن المقام مقام وصف للامتيازات والاختصاصات التي وقعت لهذه القرية، فهو رزق محدد في تلك البلاد قبل وصوله لتلك القرية، مع التنبيه إلا أن الرزق يجهز في تلك البلاد لتلك القرية.

11/ {رغدًا} واسعه وطيبه, فليس رزقا كثيرا وحسب، بل رزق طيب يرسل لتلك القرية الرغيد ويبقى لأولادهم المعفن.

12/ {كل مكان} عموم مخصوص.

المرحلة الثانية: {فكفرت بأنعم الله} ولكفر النعمة صور شتى منها الشرك والمعاصي, والظلم, والتبذير.

13/ {أنعم} جمع قلة، ولكن لماذا جاء التعبير بجمع القلة، أليس التعبير بجنس النعم أعظم في بيان جرم هذه القرية؟ للتنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كان كفران النعم القليلة موجبا للعذاب، فكفران النعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب, وهذه القرية على ما أوتيت من نعم فإنها لم تؤت إلا جزءا يسيرا من نعم الله سبحانه وتعالى، لأن الأمن والطمأنينة ورغد العيش بعض نعم الله.

المرحلة الثالثة: {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف} جازى الله - سبحانه وتعالى - هذه القرية على كفرها بأنعمه بأن عذبها في هذه الدنيا بالجوع بعد رغد العيش، وبالخوف بعد الأمن والطمأنينة.

14/ {فأذاقها} الذوق وجود الطعم بالفم، واستعمل في العذاب بكثرة، وعلى سبيل المثال قوله تعالى {ذق إنك أنت العزيز الكريم}، واستعمل في الرحمة أيضا {ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ...}.

15/ في النعم قدم الأمن لأنه أهم وهنا قدم الجوع, وعلى الترتيب العادي يقدم الخوف على الجوع فلماذا قدم الجوع؟ {الجوع والخوف}؛ لأن الجوع أعظم عذابا، ألا ترى أن الإنسان يعيش في خوف الحروب سنين ولكنه بل يصنع الخوف منه شجاعا, ولكن لا يستطيع أن يعيش دون طعام أكثر من بضعة أيام، ولذا من الله على أهل مكة بالإطعام أولا ثم بالأمان ثانيا، قال تعالى: {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}.

16/ لو قدرنا بالعقل لقلنا صاحب المال يخاف على ماله فهناك شيء يخاف عليه, أما الذي ليس معه شيء فلا يخاف على شيء, والسؤال أن في الآية أن صاحب الأرزاق لا يخاف, بل آمن مطمئن, وصاحب الفقر والجوع الذي ليس معه شيء خائف جائع؟ والجواب: أن الواقع في الدول المجاورة لنا يشهد بما في الآية, ثم إن هذه عقوبة وهذه نعمة فتأمل.

17/ وجاء التعبير بالذوق عن الإحساس بالعذاب من باب التعبير عن شدة ما يجدون من الألم؛ فالتذوق للنعمة زيادة في التنعم، والتذوق للعذاب زيادة في الألم.

18/ {لباس الجوع والخوف} ما أصاب القرية من جوع وخوف كان ملازما لها في كل أوقاتها، فليس الجوع والخوف في أوقات معينة ثم يذهبان ثم يعودان، بل هو جوع وخوف ملازمان لزوم اللباس للابسه.

كما بدأ الجوع والخوف من شدتهما يظهران على الوجوه والأجسام، وكلنا يعرف علامات الجوع من الشحوب والنحول، وعلامات الخوف من الذهول وضعف البدن وغير ذلك من العلامات التي تظهر على الخائف والجائع، وجاء التعبير عن ظهور هذه العلامات باللباس لأن هذه العلامات أصبحت ظاهرة عليهم ظهور اللباس, وأيضا فإن هذا الخوف والجوع محيط بهم متمكن من أجسادهم إحاطة اللباس باللابس.

19/ قد يسأل سائل هل يذاق اللباس، ولماذا لم يأت النص: "فأذاقها الله طعم الجوع والخوف" أو "فكساها الله لباس الجوع والخوف"؟! كلمة اللباس في الآية تعني الجوع والخوف الشديدين, وقد روي أن ابن الراوندي الملحد أراد الطعن بالقرآن فقال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللباس؟ فقال ابن الأعرابي: هب أنك تشك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كان نبيا أو ما كان عربيا؟

20/ جاء التعبير بـ {يصنعون} وليس "يعملون"؛ لأن الصنع هو عمل وزيادة، والزيادة هي الإجادة والتفنن في العمل، فهم لم يعملوا في كفرهم بالنعمة عملا بل صنعوه صناعة، فهم أصحاب حذاقة وخبرة، يتفننون في ألوان كفر النعمة تفننا، ويخترعون صورا لذلك لا تخطر على بال.

التعليقات : 1 تعليق

24-04-2022

(غير مسجل)

zineb kachchach

ماشاء الله التفسير فيه دقة و سلاسة للفهم
[ 1 ]

إضافة تعليق


 

/500

روابط ذات صلة

المقال السابق
المقالات المتشابهة المقال التالي