المقال

:: فقه إصدار الحكم الشرعي ::

607 | 23-07-2022

بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ

فقه إصدار الحكم الشرعي

لقد اطلعت على الكثير من كتابات بعض طلبة العلم الذين بحثوا مسألة فرعية في أحد الأبواب الفقهية سواء في كتاب أو على مواقع الشبكة العنكبوتية، فظهر أنهم يعرضون سبب بحث هذه المسألة، ثم يحشدون أقوال الفقهاء المتناثرة في الكتب حول هذه المسألة مبتورة عن سياقها في تلك الكتب أو تتوافق مع مذهبهم، ثم يجمعون معها الأدلة ثم يأتي الترجيح بدون النظر في المعاني والقواعد العامة والمقاصد الكلية ومالآت الأحكام، وهذا قد أحدث خللاً، وفتح باب الخلاف المستنكر على مصراعيه.

ولا يبعد عنهم الذين يكتبون في الإعجاز العلمي حيث ينظر في كلام علماء الطبيعيات في هذا العصر ثم يرجع إلى القرآن ليبحث عن آية تؤيد هذه النظرية ثم يحشد أقوال المفسرين ثم يناقشها بما يتوافق مع هذه النظرية ولو بتر النصوص وتأول ألفاظ المفسرين ونحوه، وليس عنده شيء من علوم القرآن واللغة ونحوها.

ولذا فعندما يريد الفقيه إصدار حكم شرعي على مسألة واقعة مستجدة أو غير مستجدة، فلا بد فيما يظهر لي أن يمرّ بالمراحل التالية :

1- دراسة الباب الذي هذه المسألة أحد فروعه، مع النظر في النصوص العامة في الباب الذي تبحث فيه المسألة، وفهم وجهة هذه النصوص ومآخذ الأحكام المتعلقة بها، فإذا أردت أن تبحث مسألة زكاة الحلي فادرس دراسة عامة ومجملة لباب الزكاة كله، ولبحث مسألة تعدد الزوجات لا بد أولاً من معرفة أحكام النكاح، ولمعرفة حكم بيع التقسيط لا بد من معرفة أحكام البيع والربا مطلقاً وهكذا. وأما أن تُقبِل على مسألة زكاة الحلي، وتعدد الزوجات، وبيع التقسيط من غير المرور على أبوابها العامة فسيورث بتر هذه المسألة عن منظومة الباب الذي هذه أحد مسائله كما سيجعلك تعتمد ظواهر الألفاظ من غير معرفة روح الشريعة في المسألة.ويجعلك تضطرب لو بحثت مسألة أخرى في نفس الباب ولو بعد حين ولا تطرد وهذا خلل.

2- بعد التصور العام واستحضار الأدلة والأحكام العامة ننطلق إلى النصوص الخاصة بالمسألة المراد بحثها، وننظر في ألفاظ النص ونتعامل معها من حيث دلالات الألفاظ واستعمالاتها من حيث الألفاظ مفردة أو مركبة ومعرفة دلالات السياق، كما تدرس الألفاظ من حيث معانيها اللغوية والشرعية والعرفية،كما تدرس طريقة القياس مع معرفة مسالك العلة الخاصة بهذه المسألة ولو قدح عليها بقادح وكيفية الرد على دعوى هذا القادح من منع أو نقض أو معارضة ونحوها.

لابد من دراستها أولاً بغض النظر عن الواقعة التي سننزل عليها الحكم لأننا لو درسناها وأمام أعيننا الواقعة التي نريد إصدار الحكم عليها سيجعلنا نتأول النصوص لتتوافق مع الواقعة خاصة لو جعلنا في أذهاننا من البداية ترجيح القول الذي أنا عليه قبل البحث، وهذه مشكلة. ويأتي لها مزيد توضيح بإذن الله.

عندما تتعارض الأدلة في فهم الفقيه فلا بد من حل التعارض والجمع بينها، أو الترجيح بأوجه الجمع، أو الترجيح التي ذكرها الأصوليون.

3- عند النظر في الأقوال والمذاهب التي تتحدث عن حكم المسألة فلا بد من معرفة مآخذ العلماء في المسألة بناء على أصولهم ولا بد من معرفة مصطلحاتهم وماذا يريدون بهذا المصطلح عند ذكره سواء عند الإطلاق أو عند التقييد؟ فما زل الكثير في هذا الباب إلا في مثل هذا، كما لا بد من معرفة مظانّ هذه المسألة في كتب العلم فهناك مراجع أصلية وهناك مراجع وسيطة داخل المذهب، وهناك مراجع خارج المذهب سواء من كتب المذاهب الأخرى، أو من كتب المحققين من أهل العلم في الفقه، أو التفسير، أو الحديث، أو كتب عامة، وهناك الكتب الموسوعية التي تحتاج إلى تيقظ عند النظر إليها.

4- دراسة علة هذا الحكم -أو قل هذه المسألة- سواء كان منصوصاً عليها أو مستنبطة، و مدى مواءمتها للعلل العامة في الباب فلا تكون تلك العلة نشازاً عن علل الباب، كما ينظر في مدى اندراجها ضمن مقاصد الشريعة العامة وهناك أدلة مختلف فيها لا بد أن يراعيها الفقيه عند البحث في المستجدات كالقياس وسد الذرائع وعموم البلوى والمصالح المرسلة ونحوها.

5- دراسة الواقعة بتجرد دراسة شمولية فلا نندفع وراء المادحين لها ولا المحاربين لها، ولا ننظر لها من زواية دون بقية الزوايا، أو ننظر من حيث قائليها أو فاعليها، ولا ننظر لها من حيث تاريخها ونشأتها، ولا ننس أن دراسة الواقعة نوع من تصوير المسألة فقط، ولكننا بعد الدراسة المجردة لإصدار الحكم ننتقل لمعرفة بقية المؤثرات السابق ذكرها بشرط ألا تجرّ الفقيه إلى الاندفاع، أو الإحجام، أو إلى التخوف، أو التهوك في إصدار الحكم الشرعي.

6- كما لا نبدأ ببحث المسألة وعندنا قناعة بالراجح مسبقاً فإن هذا يجعلك تتعسف النصوص لتتوافق مع ما بيّتّ ترجيحه مسبقاً وهذا ظاهر فيمن ألف في بعض القضايا الفقهية التي تحمل في طياتها بعض الحساسية الواقعية كإسبال الإزار، والتأمين، وأخذ ما زاد على القبضة من اللحية، وكشف وجه المرأة ونحوها، سواء من المبيحين أو من المانعين، وهنا يضعف التجرد عند الترجيح، وليس معنى هذا التجرد الكامل الذي يطلبه البعض لأنه من المستحيل ذلك، فإنك لم تبحث هذه المسألة إلا بسبب ترسبات في الذهن وتراكمات ثقافية وفقهية وإشكالات واقعية ونقاشات من بعض الفقهاء، أو من منتسبين للعلم وأهله دفعتك لبحث هذه المسألة فأي تجرد يطالبوننا به، ولكن التجرد عند المقارنة بين الأقوال والبحث عن الراجح.

7- عند دراسة الواقعة لا بد من تفصيلها وتفتيتها إلى أجزاء كل جزء يوضع له حكم واحد فقط، ولكنني أنبه إلى أنه لابد من تفتيت الواقعة إلى مسائل جزئية قدر الإمكان لا تحمل تلك الجزئية في طياتها إلا مسألة واحدة لا تنفك إلى مسائل تحتها حتى يسهل التخريج والبحث، ثم النظر إلى مجموعها. ثم يتم إصدار الحكم بأحد الأحكام التكليفية أو وضع ضوابط وقيود للحكم.

8- تنزيل الأحكام والنصوص على تلك الواقعة ولنحذر من تنزيل الواقعة على تلك الأحكام؛ لأن الشرع يحكم ولا يحكمه غيره، وإذا احتجنا إلى تخريجها على بعض المسائل في كتب الفقهاء فلا بأس.

9- عند مناقشة الخصوم لا نناقشهم بأصولنا نحن بل نناقش أدلتهم بناء على أصولهم هم فلا نلزم الظاهري بالقياس لأنه لا يرى بالقياس، ولا الشافعية بقول الصحابي لأنهم لا يرون بقول الصحابي وهكذا، وإذا كان الخلاف في الأصول فناقش الأصول معه أولاً فإذا أقنعت القاريء ولو من الخصم بقاعدتك فانطلق إلى المسألة.

10- معرفة ثمرات الأخذ بالقول الذي رجحناه والمفاسد الناتجة من الأخذ بهذا القول ومثله ما لو أخذنا بقول آخر وهو ما يسمى بالنظر في المصالح والمفاسد.


التعليقات : 0 تعليق

إضافة تعليق


 

/500

روابط ذات صلة

المقال السابق
المقالات المتشابهة المقال التالي